باليت المزمار

الزهور النائمة

ستار كاووش

البارحة ظهراً، سمعتُ جرسَ البيت، فتركتُ ما بيدي ومضيتُ لأفتح الباب، وهناك كانت ساعية البريد تقف مبتسمة وهي تمسك طرداً صغيراً يشبه كتاباً. فتساءلتُ مع نفسي: (لماذا قرعت الجرس رغم أن صندوق البريد يتسع لمثل هذا الطرد الصغير؟). ويبدو أنها خمّنت ما فكرتُ به، فحيّتني مبتسمة وهي تمد لي الطرد قائلة: (احذر من أن توقظ الورد النائم). بدت لي مزحتها غريبة، مع ذلك، وكي أُسايرها، ابتسمتُ وأجبتها: (اطمئني، أجمل الورود هي النائمة). لكنها أشارت إلى الطرد من جديد قائلة: (هذه ليست مزحة، فالطرد فيه زهور نائمة فعلاً، وعليك الاهتمام بها كي تصحو من سباتها بشكل جيد).

تنقلتُ ببصري بينها وبين الطرد الذي بين يديّ، وسألتها: (ماذا تقصدين بالضبط؟) فاقتربت مني وقالت: (هذه طريقة جديدة لإرسال الورد، حيث نجعله نائماً وغير متفتح في هذا الباكيت الصغير، ثم نرسله بالبريد على العنوان الذي يختاره الزبون. ويمكن لهذا الورد أن يبقى نائماً في العلبة لمدة تسعة أيام كحد أقصى، ومن يستلمه ما عليه سوى أن يفتح الطرد بهدوء ثم يضع الورد في مزهرية فيها بعض الماء، عندها سترى كيف يتفتح الورد وينهض من نومه).

شكرتها على التفاصيل ومضيتُ متعجباً إلى الداخل صحبة هذا الطرد العجيب، وهناك قرأت على الجهة الأخرى اسم المرسل، وكانت الصديقة كاتي التي ترسل باقات زهور في فترات متفاوتة، لكنها هذه المرة أرادت أن توقظني أيضاً بهذه الطريقة الجميلة، صحبة هذه الزهور النائمة، لتزداد عندي المفاجآت في هذا البلد الذي يتفنن كل يوم بزراعة وتجهيز وابتكار طرق إهداء الورد.

حملتُ الطرد إلى المطبخ وفتحته بهدوء، فظهرت الزهور تستلقي بجانب بعضها بصف واحد، برؤوسها المغلقة التي تشبه كرات صغيرة، وقد غُلّفت بحافظة بلاستيكية رقيقة ومحكمة داخل الطرد. قرأتُ بعض التعليمات التي تُشير إلى أني، ما إن أفتح الغطاء البلاستيكي بهدوء، حتى تبدأ الزهور بالصحو، وما عليّ سوى أن أقطع جزءاً من أسفل الساق. وهناك كيس بحجم بضعة سنتيمترات يحتوي على غذاء للورد، أفتحه وأخلط محتوياته مع ماء المزهرية.

أحضرتُ مزهرية مناسبة من القبو الذي أسفل البيت، واخترتُ طاولة صغيرة، هي في الحقيقة عمل فني، كنتُ قد صمّمتها بنفسي ورسمتُ عليها عاشقَين. لم تمضِ دقائق على الزهور، التي ما إن لامست الماء حتى بدت تتمطّى مثل فتيات صغيرات في مقتبل العمر. السحر هنا يأخذ مداه، والجمال النائم يستيقظ، والزهور تعطّر غرفة المعيشة، فيما أنا أحاول أن أعيش أجواء هذه المفاجأة التي تشبه افتتاح معرض شخصي جميل.

تُرى، مَن الذي ابتكرَ هذه الطريقة الرومانسية؟ وكيف جعلها تتحقق هكذا بسهولة؟ وما جعل الأمر سهلاً هو أن البريد في هولندا لا يتأخر أكثر من يوم في كل الأحوال. فعلاً، الجمال ينبع من التفاصيل الصغيرة التي تحمل قوتها وحضورها وسر وجودها. وكي أعيش مع المشهد، سحبتُ كرسياً وجلستُ أتأمل الزهور التي كانت تتفتح، وأنا أتنفس معها هواء الغرفة.

تُعتبر الزهور أهم مفردة في الحياة الهولندية، حيث تراها وتتحسسها في كل مكان: في البيوت، والشوارع، والساحات، والزوايا، وتقاطع الطرق، والباحات المختلفة، والشرفات، وعتبات المنازل، والمتاجر، وحتى الأرصفة والطرقات. وتستخدم الناس مختلف الأواني والأوعية، وكل ما يقع في متناول الأيدي لوضع الزهور، مثل جارتي بيانكا التي تحتفظ حتى بزجاجات العطر الفارغة التي يستعملها زوجها هينك، وتضع فيها زهوراً صغيرة جداً من حديقتها. وقد جاءت قبل بضعة أيام وأحضرت لي معها واحدة من هذه الزجاجات التي أسميتُها ضاحكاً (مزهريات الأقزام السبعة).

احتلت الزهور مكانها في الثقافة الهولندية، حيث تنتشر في الأغاني، والأمثال الشعبية، والحكايات، والأعياد، واللوحات، والمسرحيات، وأسماء الشوارع والأحياء. ويكفي أن العيد الوطني في الكثير من البلدان هو عيد الجيش، فيما أن هولندا هي البلد الوحيد الذي عيده الوطني هو عيد الزهور، الذي يُصادف الحادي والعشرين من شهر آذار، والذي تُوزّع فيه ملايين الزهور مجاناً. وتُنتج هولندا سنوياً مليارات من الزهور بأنواع لا حصر لها، ويعود عليها ذلك بسبعة مليارات يورو كل سنة، وبذلك تُشكّل أكبر نسبة من اقتصاد هولندا.

ويُعتبر التوليب أشهر أنواع الزهور في البلد، وخاصة بلونه الأحمر الذي يرمز للعشاق والمحبين. وهناك أيضاً ألف وخمسمئة نوع آخر من الزهور البرية التي تنتشر في المناطق الطبيعية، كالغابات، والكثبان الرملية، والمراعي، وحتى على جوانب الطرق.

وبما أن متاجر الورد تملأ الشوارع والزوايا والمنعطفات، فالذاهب في زيارة معينة لا يجد صعوبة في الحصول على باقة مناسبة قبل أن يصل إلى مكان الزيارة، كما فعل صديقي بهاء الذي انتظرته ذات مرة عند محطة القطار عندما جاء لزيارتي. وهناك، توجّه إلى محل الزهور لشراء باقة مناسبة كي يجلبها معه، وحين وقع نظره على باقة جميلة حقاً وبألوان مذهلة، حملها بهدوء وتوجّه لصاحبة المحل، وقبل أن يدفع ثمنها سألها إن كان هذا الورد من النوع الذي يحتاج إلى الكثير من الماء، فأجابته إجابة صادمة: (لا يا سيدي، هذه الزهور يمكنها أن تبقى سنوات طويلة بحالة جيدة دون قطرة ماء). وحين استفسرنا عن السبب، قالت ضاحكة: (لأن هذه الباقة التي اخترتها، عبارة عن زهور صناعية، وهي الزهور الوحيدة غير الحقيقية الموجودة في المحل، مع ذلك وقع اختياركما عليها!)

فضحكنا كثيراً وما زلنا نضحك على هذا الالتباس، لكني أُعجبتُ كثيراً بالمهارة والإتقان الذي صُنعت به تلك الزهور، التي بدت حقيقية أكثر من الزهور الطبيعية ذاتها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى